مينا م. يوسف
لا يحتاج المرء منا إلى مجهود مضني حتى يتسنى له إكتشاف
تلك الحقيقة المرة؛ أن البشر في مجملهم فاسدون يميلون نحو العصيان والتمرد. يبحثون
عن الوصية والقانون لا ليكسروه فقط، بل ويتلذذوا أيضاً في كسره؛ سواء كان هذا
القانون قانوناً أخلاقياً أو دينياً أو حتى مدنياً! حتى أولئك الذين يظهرون أنهم
أكثر الناس إلتزاماً وتمسكاً بالقوانين والنواميس؛ تجد لكل منهم قانونه الخاص.
قانوناً إنتقائياً يجمع فيه ويلتزم بالوصايا التي تجعله تحت دوائر الضوء والمديح
من الآخرين ناعتين إياه بالرجل الصالح؛ أو ربما يلتزم بدافع أن يحقق أكبر ربحٍ
ممكن من المكافآت الإلهية، وليس حباً خالصاً لذاك الإله!
كما أن التقدم العلمي والنفسي الهائل الذي وصلت إليه
البشرية لم يستطع الإمساك بلجام البشر الأخلاقي وضبط رغباتهم وميولهم وشهواتهم الجامحة.
بل على العكس، كلما اخترعت البشرية أموراً حسنة ومفيدة، تجد عقولاً جبارة سرعان ما
تطوّع تلك الاختراعات لتستخدمها في الشر والدمار! ولا يوجد أبلغ من وصف "Chesterton" لحالة
الإنسان إذ قال:
أننا نتحدث عن الحيوانات المتوحشة، ولكن الإنسان هو
الحيوان المتوحش الوحيد! الإنسان هو الذي تحطم. وكل الحيوانات الأخرى مستأنسة
وتتبع باحترام القبيلة أو النوع الذي تنتمي إليه![1]
إن تلك الصورة القاتمة بعمومية حالة العصيان البشري
والجموح نحو الشر، تحدث عنها الكتاب المقدس بعهديه في أكثر من موضع، ليؤكد على
أنها حالة عامة وشاملة ولا تفسح مجالاً لأي استثناء![2] فهكذا شهد سليمان النبي إذ قال: "لأَنَّهُ لاَ إِنْسَانٌ
صِدِّيقٌ فِي الأَرْضِ يَعْمَلُ صَلاَحًا وَلاَ يُخْطِئُ" (جامعة 7: 20)؛
وقال إشعياء: "كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ"
(إشعياء 53: 6)؛ "لكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ"
(غلاطية 3: 22)!
وقال بولس: "فَمَاذَا إِذًا؟ أَنَحْنُ أَفْضَلُ؟ كَّلاَ
الْبَتَّةَ! لأَنَّنَا قَدْ شَكَوْنَا أَنَّ الْيَهُودَ وَالْيُونَانِيِّينَ أَجْمَعِينَ
تَحْتَ الْخَطِيَّةِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ.
لَيْسَ مَنْ يَفْهَمُ. لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ اللهَ. الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا
مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ". (رومية 3:
9-12) وهكذا شهد الله على لسان المرنم في القديم إذ قال: "قَالَ الْجَاهِلُ فِي
قَلْبِهِ: «لَيْسَ إِلهٌ». فَسَدُوا وَرَجِسُوا بِأَفْعَالِهِمْ. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ
صَلاَحًا. اَلرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي الْبَشَرِ، لِيَنْظُرَ:
هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ اللهِ؟ لْكُلُّ قَدْ زَاغُوا مَعًا، فَسَدُوا. لَيْسَ مَنْ
يَعْمَلُ صَلاَحًا، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ". (مز1:14-2)
فما هو مصدر حالة الإثم الشاملة التي ترزح تحتها
البشرية؟ ولماذا يخطيء جميع البشر؟ لماذا يسلكون ضد ما يعرفون أنه صالح وخير؟!
لقد حاول البعض تعليل ذلك بالقول أن علة ذلك إنما ترجع
إلى كل إنسان على حدا. فهو اختار بإرادته وبتأثير البيئة الفاسدة حوله أن يعصي
ويقترف شراً. فليست رواية آدم وحواء في (تكوين 3) إلا رواية رمزية تجسم لنا مشكلة
فساد الإنسان؛ أن جميع البشر يعصون فكل إنسان هو آدم نفسه! على سبيل المثال يؤكد كوستي باندلي تلك الرؤية عن الخطية الأصلية بقوله:
فهي في فكر بعض الآباء ليست خطية فرد انتقلت إلى ذريته؛
إنما هي خطية الإنسانية كلها وما آدم سوى ممثل لهذه الإنسانية... ما يروى في سفر
التكوين على أنه حصل لآدم؛ إنما يمثل (النموذج) لما تعيشه الإنسانية التاريخية
كلها. بعبارة أخرى، ليس آدم سبباً لمآساة البشرية؛ إنما هو صورة لهذه المآساة...
إذ أن الخطية في آدم ليست خطية ارتكبها هو فانتقلت منه إليها، ليست خطية موروثة عن
الجد الأول؛ إنما تمثل الموقف الذي هو لدى كل إنسان... فالإنسان في المنظور
الأرثوذكسي لا يولد مذنباً، إنما هي قضية مناخ خطية نولد فيه وننشأ ونحيا".[3]
ولكن، يرى الباحث أن هذه النظرية سرعان ما تضيع مصداقيتها أمام
الحقيقة التي يقرها الوحي المقدس والواقع الإنساني أن الجميع عصاة وأثمة! لأنه لو
كانت البشرية حقاً لا تولد بأي ميل نحو العصيان، لوجد احتمال ولو ضئيل أن يكون
هناك بشراً عاشوا على هذه الأرض طوال حياتهم دون أن يقترفوا أية خطية. ولكن كلمات
الرسول بولس القاطعة تقف حائلاً أمام هذا الإحتمال إذ قال: "إذ الجميع اخطأوا
واعوزهم مجد الله". (رومية 3: 23)
فهذه النظرية التي تنادي بأن البشر يخطئون على شبه تعدي
آدم، أو أن عصيان آدم ما هو إلا رمز ومثال لعصياننا؛ تعجز عن تبرير أو تعليل هذه
الحقيقة الراسخة التي أقرها بولس الرسول: لماذا "مَلَكَ الْمَوْتُ... عَلَى الَّذِينَ
لَمْ يُخْطِئُوا عَلَى شِبْهِ تَعَدِّي آدَمَ"؟ (رومية 5: 14)[4]
لماذا لا يوجد استثناءات؟ لماذا يخطيء الجميع؟ أو كما قال آر. سي. سبرول:
لو فرضنا أن أربعة مليار شخص ولدوا بلا أي ميل نحو
الخطية، وبلا أي فساد في طبيعتهم؛ فالاستنتاج المنطقي لهذا، أنه على الأقل يمتنع
بعضهم عن السقوط في الشر. فلو طبيعتنا الأخلاقية هي في حالة حياد وبراءة؛ لتوقعنا
احصائياً أنه على الأقل نصف الجنس البشري سيكونوا صالحين... فحين نفكر في معصية
شخص، فهذا فرد واحد، ولكن إذا كان كل إنسان يفعلها بلا أي استثناءات؛ فحينها
تداهمنا الحيرة لماذا؟... لا شيء يؤكد بقوة بأننا جميعاً ولدنا في فساد، سوى أننا
جميعاً نخطيء![5]
كما أن القول إن البشر يخطئون بسبب أنهم يولدون في حالة
ومناخ وبيئة فاسدة؛ فالتساؤل الذي يطفو على الساحة هو إن كان البشر يولدون صالحين،
فما الذي يجعل المجتمع فاسداً؟ ما الذي سبق أولاً وأفسد هذا المناخ من حولهم؟!
إن هذا الافتراض
القائل إن البشر يخطئون بسبب البيئة التي نشأوا فيها، يفتقر إلى الأدلة المنطقيّة
والكتابية السليمة. وعليه، في المقالات التالية سوف نتعرّض لما يعلّمه الكتاب
المقدس في كلا عهديه حول السبب الرئيسي وراء عمومية الخطية، كما أننا سنحاول
الإجابة على الكثير من المغالطات والادعاءات وتصحيح الكثير من المفاهيم حول الخطية
الأصلية، وما إذا كان أوغسطينوس هو حقاً أول من نشر هذا التعليم أم أن هذا التعليم
يدب جذوره ليس فقط في اللاهوت الكتابي، بل والآبائي والتقليد اليهودي أيضاً.
[2] هيرمان
بافينك، بين العقل والايمان الجزء الثاني. ترجمة سعيد باز. (القاهرة: مطبوعات
الشرق الأوسط، 1993)، 171
[3] كوستي
بندلي، الله والشر والمصير. (بيروت: تعاونية النور الأرثوذكسية للنشر والتوزيع،
2007)، 125-126و131
[4] هيرمان
بافينك، بين العقل والايمان الجزء الثاني. ترجمة سعيد باز. (القاهرة: مطبوعات
الشرق الأوسط، 1993)، 177
[5] R.C.Sproul,
Classic teachings on the nature of God. (Massachusetts: Hendrickson Publishers,
2010), 202-203
Comments
Post a Comment