Skip to main content

تدابير مبعثرة أم خُطة واحدة






بقلم: مينا ميشيل يوسف

إن الخلاف الكبير بين اللاهوت العهدي والتدبيري هو خلاف تفسيري في الأساس. فالأخير يحاول شرح وتفسير ما قاله العهد الجديد في ضوء ما قيل عن إسرائيل والوعود في العهد القديم. هذا يخالف ما فعله رسل المسيح وتلاميذه، إذ قاموا بشرح ما قاله العهد القديم عن إسرائيل والعهود في ضوء الإعلان الأكمل في شخص وعمل المسيح في العهد الجديد. في هذا المقال سنتفحص كيف ينظر كل من اللاهوت التدبيري والعهدي لأسفار وأحداث الكتاب المقدس ككل.
يؤمن الفكر التدبيري بأن الله قسم الزمن إلى سبعة تدابير، ويتميز كل تدبير بأن الله كان يصنع خُطة أو عهدًا ثم يأتي الإنسان ويُفشل هذا العهد. وتختلف معاملات الله مع الإنسان وفقًا للمبادئ التي كانت تحكم هذا العهد. فهناك تدبير للنعمة وآخر للناموس، وهذا مختلف ومنفصل عن ذاك. فإسرائيل كانت تحت تدبير الناموس، أما الكنيسة فهي تحت تدبير النعمة. والنعمة كانت غائبة في زمن الناموس، كما أن الناموس غائب في زمن النعمة. وبحسب الفكر التدبيري، كانت إسرائيل تحت تدبير الناموس تتبرر بأعمال الناموس، أما الكنيسة فهي تتبرر بالإيمان بيسوع المسيح. وبركات إسرائيل كانت أرضية ووقتية، أما بركات الكنيسة فهي روحية وأبدية. كما أن الله في تدبير الناموس لم يكن منشغلاً سوى بالشعب الإسرائيلي، أما في تدبير النعمة فنجده منشغل بالأمم. وبالتالي، فإن الله له خطط مختلفة (وليست خطة واحدة) يتعامل بها مع البشر عبر التدابير المختلفة.
على الصعيد الآخر، يؤمن اللاهوت العهدي بأن الله ضابط الكل، وأن له خطة واحدة وقصد ثابت لم يتغير من نحو البشر وعلاقتهم به. وقد عبر عن قصده هذا بعهود مختلفة قطعها مع البشرية، بداية بالعهد مع آدم، ثم نوح، وبعده إبراهيم، موسى، وداود، وأخيراً العهد الجديد. وهذه العهود ليست تدابير وخطط مختلفة، ولكنها تأكيدات وأبعاد مختلفة لذات القصد الإلهي؛ وهذا القصد الإلهي هو خلاص البشر من خلال يسوع المسيح.
ليس لدى الله خطة خاصة بالأمم وأخرى باليهود، إذ أنه يمكننا بسهولة إذا تتبعنا معاملات الله في العهد القديم أن نكتشف كيف أن الله في مباركته لإسرائيل كان أيضاً مشغولاً بالأمم![1] فالله في عهده مع إبراهيم باركه لتتبارك فيه "جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ." (تكوين 12: 3). وفي العهد الموسوي على جبل سيناء، بارك الله إسرائيل ليكونوا "مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً" (خروج 19: 4-6)، أي ليكونوا وسطاء بين الله وسائر الأمم.[2]
ونقرأ في إحدى قصائد العبد المتألم في إشعياء 42: 6 دعوة الله لعبده قائلاً: "وَأَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ وَنُورًا لِلأُمَمِ."  وهي ذات الكلمات التي اقتبسها لوقا مرتان، أحداهما على لسان سمعان الشيخ في لوقا 2: 32، والأخرى على لسان الرسول بولس في أعمال الرسل 13: 47. وفي سفر يونان نجد الله في ظل ما يسمونه التدبيريون "تدبير الناموس" منشغلًا بتوبة أمة وثنية كانت شديدة العداوة لشعب إسرائيل ومشفقًا عليها (يونان 4: 11). فالله دائماً وعبر الأزمنة والعصور المختلفة له قصد واحد أن تعرفه وتعبده الشعوب والأمم، تم ذلك قديمًا عبر اختياره لشعب إسرائيل (مزمور 96: 3) ويتم اليوم من خلال اختياره للكنيسة (راجع رومية 9-11، أفسس 3: 10).
والله ليس عنده طريقان للخلاص والتبرير أمامه إحداهما بالناموس لمن تحت تدبير الناموس، وآخر بالنعمة لمن هم تحت تدبير النعمة. فالله لا يتغيّر، كان ولا يزال يقبل أولئك الذين يقبلونه بالإيمان، ويرفض رافضي الإيمان به؛ فالخلاص دائماً هو بالنعمة من خلال الإيمان. فحتى في زمن الناموس كانت هناك نعمة، كما أنه هناك ناموس في زمن النعمة. كيف تبرر موسى؟ كيف تبرر داود؟ أبأعمال الناموس أم بالإيمان؟ ألم يجد موسى نعمة في عيني الرب (خروج 33: 12)؟ ألم يتخذ بولس من داود مثالًا على التبرير بالنعمة حين قال: "وَأَمَّا الَّذِي لاَ يَعْمَلُ، وَلكِنْ يُؤْمِنُ بِالَّذِي يُبَرِّرُ الْفَاجِرَ، فَإِيمَانُهُ يُحْسَبُ لَهُ بِرًّا. كَمَا يَقُولُ دَاوُدُ أَيْضًا فِي تَطْوِيبِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَحْسِبُ لَهُ اللهُ بِرًّا بِدُونِ أَعْمَال: «طُوبَى لِلَّذِينَ غُفِرَتْ آثَامُهُمْ وَسُتِرَتْ خَطَايَاهُمْ. طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً»." (رومية 4: 5-8)
كما أن اخلاقيات الله ومقاييس قداسته لم تتغير عبر الأزمنة والتدابير. فهو لم يكن أكثر قداسة وتدقيقًا في العهد القديم، ثم أصبح أكثر تساهلًا في العهد الجديد. فبعيدًا عن الناموس الطقسي والمدني الذي تم في المسيح، لا نزال نحن مؤمني العهد الجديد مطالبون أن نحيا الناموس الأدبي بقوة الروح القدس. لا نزال مطالبون أن "تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى. وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. بِهَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَالأَنْبِيَاءُ" (متى 22: 37-40). وفي الويلات التي قالها المسيح على الكتبة والفريسيين نقرأ: "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَّ وَالْكَمُّونَ، وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ." (متى 23: 23) فهو قال: "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ." (متى 5: 17)
وختامًا للقول نؤكد أن اللاهوت العهدي لا يلغي التمايزات الواضحة بين العهود الكتابية المختلفة، خاصة بين العهد القديم والجديد، ولكنه يؤكد بأنه برغم هذه التمايزات، فإن لله خطة واحدة، وطريق واحد للخلاص والتبرير، ومقاييس ثابتة لحياة القداسة.


[1] مجموعة من اللاهوتيين، أبعاد رسالة الإنجيل في العالم. (القاهرة: كلية اللاهوت الإنجيلية، 2008)، 93
[2] المرجع السابق، 16و18
 

Comments

Popular posts from this blog

هل يمكن للأرواح الشريرة أن تسكن في المسيحي الحقيقي؟

مينا م. يوسف مقدمة: تمتليء المكتبات المسيحية والمنابر الكنسية بالعديد من التعاليم الغريبة التي ظهرت مؤخراً، والتي تنادي بأن المؤمنين الحقيقيين بالمسيح يمكن أن تسكن أجسادهم أو نفوسهم أرواحاً شريراً؛ ويكونون كغير المؤمنين في إحتياج لطردها من حياتهم عبر مؤمن آخر. -          فهل حقاً يمكن للأرواح الشريرة أن تسكن في المؤمنين؟ -          وهل يوجد أدلة كتابية تؤكد أو تنفي ذلك؟ -          ومدى خطورة رفض أو قبول هذا التعليم؟ وغيرها الكثير من التساؤلات التي يحاول الباحث من خلال هذا البحث الإجابة عليها. أولاً: التيار المؤيد لسكنى الأرواح الشريرة في المؤمن الحقيقي: 1-     بماذا يعتقدون: يؤمن هذا التيار بأن سيطرة الأرواح الشريرة على البشر، لا تتوقف عند سكناها في أجساد الأشرار، بل تمتد لتسيطر وتسكن حتى في المؤمنين الحقيقيين! ويفرقون جسادفففف في تعاليمهم بين أن يلبس (يمتلك) شخص من روح شرير وأن يسكن فيه روح شرير. فيرون أن "الامتلاك من ال...

الخطية الأصلية [2/ 8]: الطبيعة الفاسدة

مينا م. يوسف [إن تأملت بما لي من خير قلت أي شيء لي ولم آخذه منك؟ وإن كنت أخذته فلم اتباهي كأني  ما أخذته؛ أنا ما استطعت من نفسي شيئاً، سوى أن أهلكها. وما عرفت أن أجدك أنت يا صانعي لو لم تطلبني.] (القديس أوغسطينوس) [1] إن مصطلح الخطية الأصلية كغيره من المصطلحات اللاهوتية لم يرد في الأسفار المقدسة مباشرة، لكنّه يلخص حقيقتان هامتان للغاية: الفساد الموروث والذنب الموروث. في هذا المقال سنرّكز على الفساد الموروث، تاركين الحديث عن الذنب الموروث لمقالنا التالي. في كتابه أصول الإيمان المسيحي، عرّف جون كالفن الخطية الأصلية بأنها: الانجذاب والفساد الموروث لطبيعتنا، المنتشر من خلال كل أجزاء النفس، مما يضعنا تحت غضب الله الرهيب، وينتج فينا تلك الأعمال التي يدعوها الكتاب المقدس "أعمال الجسد". (غلاطية 5: 19) [2] لم يخلق الله الإنسان الأول وبداخله ميل أو ضعف نحو العصيان؛ كما أن الخطية ليست جزءاً أصيلاً ينتمي إلى الطبيعة البشرية أو الصورة التي خلقنا الله عليها في البدء، [3] إنما كما يقول الرسول بولس: "بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ". (رو...

تعاليم المسيح.. لا تقتل

وصية اليوم.. لا تقتل!! مينا ميشيل ل. يوسف وسط عالم يبيح قتل المعارضين ويقنن سحق المختلفين، وبدمٍ بارد يذبحهم بدعوة إرساء الاستقرار أو حماية المعتقد. آتى المسيح ليقدم أكثر من مجرد وصية بعدم القتل، آتى داعياً تابعيه إلى ضرورة بذل الجهد   ليصنعوا سلاماً حتى مع ألد أعدائهم (مت9:5)! ومرة أخرى يعود المسيح ليؤكد على أن القتل شأنه شأن أي شر آخر، ينبع من الداخل وليس مجرد فعلاً خارجياً. " لأنه من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة: زنى فسق قتل.. " (مر21:7). لذا، فلا عجب أن نجد النبي سليمان في القديم يوصنا قائلاً: " فوق كل تحفظ احفظ قلبك، لان منه مخارج الحياة " (أم23:4). فكم من نفوس تبدو ظاهرياً كأشخاص مسالمة، وداخلهم وح و شٍ كاسرة مليئة بالغضب وشهوة الإنتقام!  لذا فقد أكد المسيح في تعاليمه على أن الإمتناع عن القتل ليس كافياً، إنما الإحتياج الأكبر هو إلى إزالة روح الغضب والإنتقام من الداخل، قائلاً: " قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تقتل ومن قتل يكون مستوجب الحكم. وأما أنا فأقول لكم: إن كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم !" (مت21:5-22...