Skip to main content

هل لا يزال التكليف الحضاري ساريًا إلى يومنا هذا؟


مينا م. يوسف

حين خلق الله أبوينا الأوليّن، آدم وحواء، على صورته باركهما وأوصاهما قائلًا: "أثمِروا واكثُروا واملأوا الأرضَ، وأخضِعوها، وتَسَلَّطوا علَى سمَكِ البحرِ وعلَى طَيرِ السماءِ وعلَى كُلِّ حَيَوانٍ يَدِبُّ علَى الأرضِ." (تكوين 1: 28) هذا ما يطلق عليه علماء اللاهوت "التكليف الحضاري".

ولا يزال تكليف الله للإنسان ساريًا بالاعتناء وإعمار الأرض والإثمار إلى هذا اليوم. فلم يكن هذا تكليفًا أعطي للإنسان في بداية الخليقة وتلاشى مع السقوط. فحتى بعد حادثة السقوط، نرى الله يؤكد للإنسان أن التكليف الحضاري لا يزال ساريًا ولكنه أصبح ممتزجًا بالألم والعمل الشاق، نتيجة لدخول الخطية إلى العالم. فيقول الكتاب:

وقالَ للمَرأةِ: تكثيرًا أُكَثِّرُ أتعابَ حَبَلِكِ، بالوَجَعِ تلِدينَ أولادًا .... وقالَ لآدَمَ... مَلعونَةٌ الأرضُ بسَبَبِكَ. بالتَّعَبِ تأكُلُ مِنها كُلَّ أيّامِ حَياتِكَ. وشَوْكًا وحَسَكًا تُنبِتُ لكَ، وتأكُلُ عُشبَ الحَقلِ. بعَرَقِ وجهِكَ تأكُلُ خُبزًا.... (تكوين 3: 16-19)

وحتى بعد طرد الإنسان من جنة عدن، يؤكد الوحي في تكوين 3: 23 على أن التكليف الحضاري لا يزال ساريًا بقوله: "فأخرَجَهُ الرَّبُّ الإلهُ مِنْ جَنَّةِ عَدنٍ ليَعمَلَ الأرضَ الّتي أُخِذَ مِنها."

كما أننا نقرأ أنه حتى بعد فناء العالم القديم أيام نوح عبر الطوفان، أكد الله لنوح ونسله على ضرورة إتمام التكليف الحضاري مباشرة بعد خروجهم من الفُلك، بقوله: "وبارَكَ اللهُ نوحًا وبَنيهِ وقالَ لهُمْ: «أثمِروا واكثُروا واملأوا الأرضَ... فأثمِروا أنتُمْ واكثُروا وتَوالَدوا في الأرضِ وتَكاثَروا فيها." (تكوين 9: 1، 7)

وكان قصد موسى من ذكر التكليف الحضاري في بداية سفر التكوين، هو تعليم شعب إسرائيل، وهو في طريقه لأرض الموعد، بأن عليهم طاعة ناموس الله وتتميم التكليف الحضاري في الأرض التي سيعطيها لهم، وأن تكون بمثابة نقطة انطلاق لهم نحو نشر ملكوت الله وسط الأمم من حولهم.

ويمكنك تتبع هذا الحق عبر أسفار العهد القديم الذاخرة بالتأكيد على ضرورة أن يحيا شعب الله مقدّسًا على صورة الله القدوس (لاويين 11: 44-45)، تلك الصورة التي خلق الله عليها الإنسان من البدء (تكوين 1: 27)، حتى يتمكّن هذا الشعب من أن يقود سائر الأمم في طريقهم نحو معرفة الإله الحقيقي وعبادته. فنقرأ في الناموس كيف أن الله اختار شعبه القديم وأحسن إليهم ليكونوا بمثابة كهنته وخدامه الواقفين بينه وبين سائر الأمم، في قوله: "فالآنَ إنْ سمِعتُمْ لصوتي، وحَفِظتُمْ عَهدي تكونونَ لي خاصَّةً مِنْ بَينِ جميعِ الشُّعوبِ. فإنَّ لي كُلَّ الأرضِ. وأنتُمْ تكونونَ لي مَملكَةَ كهَنَةٍ وأُمَّةً مُقَدَّسَةً." (خروج 19: 5-6)

وهذا ما قاد بعض أنبياء الله في العهد القديم مسوقين من الروح القدس للصلاة لأجل سائر الأمم ودعوتهم لعبادة الإله الحقيقي (مزمور 2: 10-12؛ 47: 1؛ إشعياء 30: 3). ولكن الغالبية العظمى من شعب إسرائيل لم تفهم هذا الدور الكهنوتي الذي كان عليها القيام به، فعاشوا منغلقين ومنحصرين في ذواتهم.

لذا، حين آتى المسيح أعطى للتكليف الحضاري بُعدًا أعمق وأشمل، في وصيته العظمى التي تركها لتلاميذه قبل صعوده بجسده الممجد إلى السماء، والتي قال فيها:

دُفِعَ إلَيَّ كُلُّ سُلطانٍ في السماءِ وعلَى الأرضِ، فاذهَبوا وتَلمِذوا جميعَ الأُمَمِ وعَمِّدوهُم باسمِ الآبِ والِابنِ والرّوحِ القُدُسِ. وعَلِّموهُم أنْ يَحفَظوا جميعَ ما أوصَيتُكُمْ بهِ. وها أنا معكُمْ كُلَّ الأيّامِ إلَى انقِضاءِ الدَّهرِ. (متى 28: 18-20)

فقد أكد على أن أتباعه المؤمنين به، ليس فقط عليهم أن يتكاثروا كميًّا لضمان استمرار الحياة البشرية على الأرض، بل أيضًا كيفيًّا، بصناعة تلاميذ حقيقيين غايتهم أن يكونوا مشابهين صورة يسوع المسيح (رومية 8: 29). وأن يأخذوا بشارة الإنجيل واقتراب الملكوت إلى أقصى الأرض (أعمال الرسل 1: 8).

وحين يأتي المسيح ثانيةً سيعطي للتكليف الحضاري كامل معناه. فعند عودة ثانيةً، سيبسط المسيح سلطانه على كافة ممالك العالم (رؤيا 11: 15؛ 12: 10)، ويجمع لنفسه شعبًا من الغالبين على صورته ليملك معه إلى أبد الآبدين، من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة (رؤيا 5: 9).

Comments

Popular posts from this blog

هل يمكن للأرواح الشريرة أن تسكن في المسيحي الحقيقي؟

مينا م. يوسف مقدمة: تمتليء المكتبات المسيحية والمنابر الكنسية بالعديد من التعاليم الغريبة التي ظهرت مؤخراً، والتي تنادي بأن المؤمنين الحقيقيين بالمسيح يمكن أن تسكن أجسادهم أو نفوسهم أرواحاً شريراً؛ ويكونون كغير المؤمنين في إحتياج لطردها من حياتهم عبر مؤمن آخر. -          فهل حقاً يمكن للأرواح الشريرة أن تسكن في المؤمنين؟ -          وهل يوجد أدلة كتابية تؤكد أو تنفي ذلك؟ -          ومدى خطورة رفض أو قبول هذا التعليم؟ وغيرها الكثير من التساؤلات التي يحاول الباحث من خلال هذا البحث الإجابة عليها. أولاً: التيار المؤيد لسكنى الأرواح الشريرة في المؤمن الحقيقي: 1-     بماذا يعتقدون: يؤمن هذا التيار بأن سيطرة الأرواح الشريرة على البشر، لا تتوقف عند سكناها في أجساد الأشرار، بل تمتد لتسيطر وتسكن حتى في المؤمنين الحقيقيين! ويفرقون جسادفففف في تعاليمهم بين أن يلبس (يمتلك) شخص من روح شرير وأن يسكن فيه روح شرير. فيرون أن "الامتلاك من ال...

الخطية الأصلية [2/ 8]: الطبيعة الفاسدة

مينا م. يوسف [إن تأملت بما لي من خير قلت أي شيء لي ولم آخذه منك؟ وإن كنت أخذته فلم اتباهي كأني  ما أخذته؛ أنا ما استطعت من نفسي شيئاً، سوى أن أهلكها. وما عرفت أن أجدك أنت يا صانعي لو لم تطلبني.] (القديس أوغسطينوس) [1] إن مصطلح الخطية الأصلية كغيره من المصطلحات اللاهوتية لم يرد في الأسفار المقدسة مباشرة، لكنّه يلخص حقيقتان هامتان للغاية: الفساد الموروث والذنب الموروث. في هذا المقال سنرّكز على الفساد الموروث، تاركين الحديث عن الذنب الموروث لمقالنا التالي. في كتابه أصول الإيمان المسيحي، عرّف جون كالفن الخطية الأصلية بأنها: الانجذاب والفساد الموروث لطبيعتنا، المنتشر من خلال كل أجزاء النفس، مما يضعنا تحت غضب الله الرهيب، وينتج فينا تلك الأعمال التي يدعوها الكتاب المقدس "أعمال الجسد". (غلاطية 5: 19) [2] لم يخلق الله الإنسان الأول وبداخله ميل أو ضعف نحو العصيان؛ كما أن الخطية ليست جزءاً أصيلاً ينتمي إلى الطبيعة البشرية أو الصورة التي خلقنا الله عليها في البدء، [3] إنما كما يقول الرسول بولس: "بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ". (رو...

تعاليم المسيح.. لا تقتل

وصية اليوم.. لا تقتل!! مينا ميشيل ل. يوسف وسط عالم يبيح قتل المعارضين ويقنن سحق المختلفين، وبدمٍ بارد يذبحهم بدعوة إرساء الاستقرار أو حماية المعتقد. آتى المسيح ليقدم أكثر من مجرد وصية بعدم القتل، آتى داعياً تابعيه إلى ضرورة بذل الجهد   ليصنعوا سلاماً حتى مع ألد أعدائهم (مت9:5)! ومرة أخرى يعود المسيح ليؤكد على أن القتل شأنه شأن أي شر آخر، ينبع من الداخل وليس مجرد فعلاً خارجياً. " لأنه من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة: زنى فسق قتل.. " (مر21:7). لذا، فلا عجب أن نجد النبي سليمان في القديم يوصنا قائلاً: " فوق كل تحفظ احفظ قلبك، لان منه مخارج الحياة " (أم23:4). فكم من نفوس تبدو ظاهرياً كأشخاص مسالمة، وداخلهم وح و شٍ كاسرة مليئة بالغضب وشهوة الإنتقام!  لذا فقد أكد المسيح في تعاليمه على أن الإمتناع عن القتل ليس كافياً، إنما الإحتياج الأكبر هو إلى إزالة روح الغضب والإنتقام من الداخل، قائلاً: " قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تقتل ومن قتل يكون مستوجب الحكم. وأما أنا فأقول لكم: إن كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم !" (مت21:5-22...