Skip to main content

تعاليم المسيح.. لا تقتل

وصية اليوم.. لا تقتل!!

مينا ميشيل ل. يوسف

وسط عالم يبيح قتل المعارضين ويقنن سحق المختلفين، وبدمٍ بارد يذبحهم بدعوة إرساء الاستقرار أو حماية المعتقد. آتى المسيح ليقدم أكثر من مجرد وصية بعدم القتل، آتى داعياً تابعيه إلى ضرورة بذل الجهد  ليصنعوا سلاماً حتى مع ألد أعدائهم (مت9:5)! ومرة أخرى يعود المسيح ليؤكد على أن القتل شأنه شأن أي شر آخر، ينبع من الداخل وليس مجرد فعلاً خارجياً. "لأنه من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة: زنى فسق قتل.." (مر21:7). لذا، فلا عجب أن نجد النبي سليمان في القديم يوصنا قائلاً: "فوق كل تحفظ احفظ قلبك، لان منه مخارج الحياة" (أم23:4). فكم من نفوس تبدو ظاهرياً كأشخاص مسالمة، وداخلهم وحوشٍ كاسرة مليئة بالغضب وشهوة الإنتقام!

 لذا فقد أكد المسيح في تعاليمه على أن الإمتناع عن القتل ليس كافياً، إنما الإحتياج الأكبر هو إلى إزالة روح الغضب والإنتقام من الداخل، قائلاً: "قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تقتل ومن قتل يكون مستوجب الحكم. وأما أنا فأقول لكم: إن كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم!" (مت21:5-22). فالغضب الداخلي إن ترك بدون علاج، حتماً سينفجر وقد يدفع الشخص للقتل[1]!

 كما أن المسيح أعطى بُعداً أعمق لهذه الوصية الكريمة "لا تقتل" وهو تحريمه حتى القتل المعنوي للآخرين سواء بالكلمات الجارحة أو اللعنات المتطايرة، بقوله: "من قال لأخيه رقا [شتيمة آرامية تعني شخص فارغ الرأس[2]] يكون مستوجب المجمع، ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم" (مت22:5). فكم من سب وإهانة كانت أشد قسوة وألماً من القتل المادي، وكم من حوادث قتل حدثت بسبب كلمات سب أشعلت الغضب في نفس القاتل[3]!
ولهذا علم المسيح أن الله لا يسر بصلوات وتقدمات أولئك الذين يرتدون قناع التقوى الخارجي، والبغضة والخصام كامنة في قلوبهم، بقوله: "إن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئا عليك، فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولا اصطلح مع أخيك، وحينئذ تعال وقدم قربانك" (مت23:5). لأنه "إن قال أحد إني أحب الله وأبغض أخاه فهو كاذب. لان من لا يحب اخاه الذي أبصره كيف يقدر ان يحب الله الذي لم يبصره؟!" (1يو20:4).
كما نصح أتباعه بأهمية تصفية الخلافات وعلاجها قبل أن تتفاقم[4]، بقوله: "كن مراضيا لخصمك سريعا -ما دمت معه في الطريق- لئلا يسلمك الخصم إلى القاضي ويسلمك القاضي إلى الشرطي فتلقى في السجن. الحق أقول لك لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الأخير!" (مت21:5-26).

وعبر صفحات الكتاب المقدس نجد ذلك التأكيد مرة تلو الأخرى أن الله "يتأنى علينا، وهو لا يشاء ان يهلك اناس بل ان يقبل الجميع الى التوبة" (2بط9:3)؛ وأن الرغبة في القتل ما هو إلا شهوة شيطانية، فالمسيح قال لأناس كانوا يريدون قتله: "أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتالا للناس من البدء" (يو44:8)[5]. لذا فهو لم يحرض أتباعه يوماً على قتال رافضي الإيمان به، فقد أوصى تلاميذه قبيل ذهابهم للتبشير قائلاً: "عندما تدخلون بيتا، ألقوا السلام عليه، فإذا كان ذلك البيت مستحقا فعلا، فليحل سلامكم عليه. وإن لم يكن مستحقا، فليرجع سلامكم لكم؛ وإن كان أحد لا يقبلكم ولا يسمع كلامكم في بيت أو مدينة، فاخرجوا من هناك، وانفضوا الغبار عن أقدامكم" (مت12:10-14). فهو لم يأمر بتبشير المدن والبلاد تحت حماية السيف، ولا رفع يوماً شعار إما الإيمان به أو الحرب معه!
وصحيح أنه قد سبق ونبه أتباعه إلى أن تبعيتهم له ستؤدي إلى إنقلاب عائلاتهم ومجتمعاتهم عليهم[6]، بقوله: "لا تظنوا اني جئت لالقي سلاما على الارض. ما جئت لالقي سلاما بل سيفا. فاني جئت لافرق الانسان ضد ابيه والابنة ضد امها والكنة ضد حماتها. واعداء الانسان اهل بيته" (مت34:10-36). لكنه لم يحرضهم قط على أن يُقاتلوا دفاعاً عن دينهم، إنما أن يكونوا مستعدين أن يُقتَلوا في دفاعهم عن دينهم (يو2:16)! فذات يومٍ دخل مدينة ورفضوا أن يقبلوه فيها، فقال له أثنين من تلاميذه: "أتريد أن نأمر بأن تنزل النار من السماء وتلتهمهم؟"، فالتفت المسيح إليهم ووبخهم قائلاً: "لا تعلمان من أي روح أنتما، لأن ابن الإنسان أتى لا ليهلك نفوس الناس، بل ليخلصها!" (لو51:9-56). فالله لا يسر بموت الشرير، بل بأن يرجع الشرير عن طرقه ويحيا! (حز11:33).
وكذلك لم يأمر المسيح يوماً بقتال من ارتد عن الإيمان به! فحين أرتد قوم كثير عن تبعيتهم له، أنه لم ينزل عليهم الويلات والقصاص، ولم يكفرهم بل تركهم أحراراً يتحملون نتائج خيارهم (يو66:6-68). فلم تكن مشيئته مطلقاً قهر الشعوب بل إقناعهم؛ ولا تخويفهم من الذين يقتلون الجسد وبعد ذلك ليس لهم ما يفعلون أكثر، بل من ذاك الذي له سلطان على أن يهلك النفس والجسد كلاهما في جهنم (لو4:12)! وحين هجم الجنود الرومان وجند الهيكل على المسيح وتلاميذه ليقبضوا عليه، استل أحد تلاميذه سيفاً وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه. فقال له المسيح: "رد سيفك إلى مكانه. لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون" (مت51:26-52).

وكم من نفوس من حولنا اليوم يفشلون في أن يحيوا حياة مرضية لإلههم، مما يدفعهم اليأس لقتل أنفسهم؛ لعل ذلك يشفع لهم ويرضي إلههم! لذا، أكد القديس أغسطينوس في كتابه "مدينة الله" أن وصية "لا تقتل" لا تقتصر على عدم قتل الآخرين، لكنها تشمل أيضاً تحريم قتل الشخص لنفسه، فكتب يقول:
"لم يعط [الله] أمراُ أو إذناً [لنا] بالإنتحار سعياً وراء الخلود، بل بالعكس نجد أمرأ عن ذلك قائلاً: لا تقتل! من دون أن تضاف كلمة قريبك؛ كما هي الحال في ما يختص بشهادة الزور حيث يقول: لا تشهد على قريبك شهادة زور (خر16:20).. فلا يجوز للإنسان أن يقتل نفسه عملاً بالأمر القائل: لا تقتل؛ حتى أنه لا يستثني أحداً ولا الذي يتقبله [أي متقبل الوصية]!"[7].

وفي الختام نقول.. أن المسيح لم يوص فقط بعدم قتل الكفار أو غيرهم سواء مادياً أو معنوياً، لكنه قال عن نفسه ما هو أعمق من ذلك بكثير إذ قال: "أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل" (يو10:10)، فهو لهذا قد آتى ليعطيك حياة عوض عن كونك ميت في الذنوب (أف1:2)، آتى ليعطي لحياتك معنى ويجعلها حياة أفضل. فهل تأتي إليه الآن؟


[1]  دون فلمنج، التفسير المعاصر للكتاب المقدس. (القاهرة: الكنيسة الانجيلية بقصر الدوبارة، 2004)، 587
[2]  Group of theologists, Quest study bible. (Michigan: Zondervan, 2003), 1391
[3]  متى المسكين، المسيح حياته واعماله. (وادي النطرون: دير القديس أنبا مقار، 1998)، 243
[4]  ر. ت. فرانس، التفسير الحديث للكتاب المقدس انجيل متى. (القاهرة: دار الثقافة، 1990)، 125
[5]  أقرأ أيضاً (رؤ14:16) و(1يو12:3)
[6]  وليم ماكدونالد، تفسير الكتاب المقدس للمؤمن الجزء الأول. (القاهرة: دار الاخوة للنشر، 2005)، 81
[7]  القديس أوغسطينوس، مدينة الله المجلد الأول، ترجمة يوحنا الحلو. (بيروت: دار المشرق، 2006)، 40
<<   السابق       التالي    >>

Comments

Popular posts from this blog

هل يمكن للأرواح الشريرة أن تسكن في المسيحي الحقيقي؟

مينا م. يوسف مقدمة: تمتليء المكتبات المسيحية والمنابر الكنسية بالعديد من التعاليم الغريبة التي ظهرت مؤخراً، والتي تنادي بأن المؤمنين الحقيقيين بالمسيح يمكن أن تسكن أجسادهم أو نفوسهم أرواحاً شريراً؛ ويكونون كغير المؤمنين في إحتياج لطردها من حياتهم عبر مؤمن آخر. -          فهل حقاً يمكن للأرواح الشريرة أن تسكن في المؤمنين؟ -          وهل يوجد أدلة كتابية تؤكد أو تنفي ذلك؟ -          ومدى خطورة رفض أو قبول هذا التعليم؟ وغيرها الكثير من التساؤلات التي يحاول الباحث من خلال هذا البحث الإجابة عليها. أولاً: التيار المؤيد لسكنى الأرواح الشريرة في المؤمن الحقيقي: 1-     بماذا يعتقدون: يؤمن هذا التيار بأن سيطرة الأرواح الشريرة على البشر، لا تتوقف عند سكناها في أجساد الأشرار، بل تمتد لتسيطر وتسكن حتى في المؤمنين الحقيقيين! ويفرقون جسادفففف في تعاليمهم بين أن يلبس (يمتلك) شخص من روح شرير وأن يسكن فيه روح شرير. فيرون أن "الامتلاك من الروح الشرير" هو أمر يخص غير المؤمنين، فهم وحدهم يمكن للأرواح الشريرة أن تمتلكهم وتسيطر عليهم بالكامل. أما المؤمنين فلا يمكن ل

تدابير مبعثرة أم خُطة واحدة

بقلم: مينا ميشيل يوسف إن الخلاف الكبير بين اللاهوت العهدي والتدبيري هو خلاف تفسيري في الأساس. فالأخير يحاول شرح وتفسير ما قاله العهد الجديد في ضوء ما قيل عن إسرائيل والوعود في العهد القديم. هذا يخالف ما فعله رسل المسيح وتلاميذه، إذ قاموا بشرح ما قاله العهد القديم عن إسرائيل والعهود في ضوء الإعلان الأكمل في شخص وعمل المسيح في العهد الجديد. في هذا المقال سنتفحص كيف ينظر كل من اللاهوت التدبيري والعهدي لأسفار وأحداث الكتاب المقدس ككل. يؤمن الفكر التدبيري بأن الله قسم الزمن إلى سبعة تدابير، ويتميز كل تدبير بأن الله كان يصنع خُطة أو عهدًا ثم يأتي الإنسان ويُفشل هذا العهد. وتختلف معاملات الله مع الإنسان وفقًا للمبادئ التي كانت تحكم هذا العهد. فهناك تدبير للنعمة وآخر للناموس، وهذا مختلف ومنفصل عن ذاك. فإسرائيل كانت تحت تدبير الناموس، أما الكنيسة فهي تحت تدبير النعمة. والنعمة كانت غائبة في زمن الناموس، كما أن الناموس غائب في زمن النعمة. وبحسب الفكر التدبيري، كانت إسرائيل تحت تدبير الناموس تتبرر بأعمال الناموس، أما الكنيسة فهي تتبرر بالإيمان بيسوع المسيح. وبركات إسرائيل كانت

تعاليم المسيح.. لا تكذب

وصية اليوم.. لا تكذب     مينا ميشيل ل. يوسف أعلن الله على صفحات الكتاب المقدس بقسميه التوراة والإنجيل، بأنه  "الصادق " (نح8:9):  فهو  ليس إنساناً فيكذب  (عد19:23)؛  وبأنه  "المستقيم " (مز8:25):  فهو أبداً  لا يغير ما خرج من شفتيه  (مز34:89)؛  وبأنه  "القدوس " (مز3:99):  الذي  عيناه أطهر من أن تنظرا للشر  (حب13:1)، ولا يسر بالشر والشرير لا يساكنه  (مز4:5)! لذا، ففي شريعته التي أعطاها على يد موسى النبي، أوصى الرب الإله قائلاً لكل إنسان وعلى مر العصور:  "لا تكذب، ولا تغدر بصاحبك، لا تحلف باسمي كاذبا، فتدنس اسم إلهك. فأنا الرب "  (لا11:19و12). ومن بعده جاء داود النبي والملك، وفي إحدى صلواته لله قال له:  " [أنت]  تهلك الناطقين بالكذب، لأنك تمقت سافك الدماء والماكر "  (مز6:5). ويعوزني الوقت إن أخبرت أيضاً عن كل ما قاله نبيه سليمان بخصوص الكذب وخطورة نتائجه (أم17:20)، ولكن فقط أورد قولاً واحداً له:  "كراهة الرب شفتا كذب. أما العاملون بالصدق فرضاه "  (أم22:12). وقد وضع الله تشريعه هذا ضد كافة ألوان الكذب وسط عالم مل